القضيّة الفلسطينيّة والمشكلة الإسرائيليّة: رؤية جديدة | فصل

«القضيّة الفلسطينيّة والمشكلة الإسرائيليّة: رؤية جديدة» (2022)

 

صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «القضيّة الفلسطينيّة والمشكلة الإسرائيليّة: رؤية جديدة» (2022)، لمؤلّفه د. لبيب قمحاوي.

يقدّم الكتاب رؤية جديدة وأفكارًا إبداعيّة لما يجب فعله وسبل التعامل مع واقع القضيّة الفلسطينيّة أو الخيارات المتوفّرة، مع التشديد على الثوابت الوطنيّة وتبيان المثالب الّتي عصفت بالقضيّة الفلسطينيّة على يد الاستعمار الإسرائيليّ والقيادة الفلسطينيّة الّتي لجأت إلى خيار أوسلو خيارًا بديلًا للكفاح المسلّح والمقاومة بأوجهها المختلفة، وكذلك بعض الأنظمة العربيّة الّتي اختارت مسار التطبيع بديلًا عن مسار الرفض والمواجهة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

المخرج الإبراهيميّ

إنّ فشل المشروع الصهيونيّ في خلق الصدقيّة والشرعيّة اللازمتين لبقائه واستمراره بصورة سلمية، قد دفع القائمين عليه إلى البحث عن أطر وفلسفات وعقائد لإمداده بما يفتقر إليه من شرعيّة في عيون الآخرين، والأهمّ من ذلك في عقول وضمائر الإسرائيليّين أنفسهم الّذين يعلمون في قرارة أنفسهم أنّ فلسطين ليست وطنهم؛ بل هي وطن العرب الفلسطينيّين، وأنّ بقاءهم على أرض فلسطين سوف يبقى قهريًّا وبقوّة السلاح، وليس بالشرعيّة الّتي يملكها الفلسطينيّون فقط.

 

الفلسفة الإبراهيميّة... كلّنا سواء 

تُعَدّ «الفلسفة الإبراهيميّة» أحد المسارب الجديدة الّتي ابتدعها العقل اليهوديّ الصهيونيّ في بحثه عن مخرج لأزمته الوجوديّة، وعن مدخل يُضفي عليه شرعيّة ما، حتّى ولو كانت تلك الشرعيّة من خلال الغوص في مجاهل التاريخ والرواية والخرافة اليهوديّة، مُعزّزةً بإطار روحيّ دينيّ، أو أصول عرقيّة أذابها التاريخ السحيق، أو روابط أخرى لم تعد تعني شيئًا في عالمنا المعاصر.

تُعَدّ «الفلسفة الإبراهيميّة» أحد المسارب الجديدة الّتي ابتدعها العقل اليهوديّ الصهيونيّ في بحثه عن مخرج لأزمته الوجوديّة، وعن مدخل يُضفي عليه شرعيّة ما...

الدعوة إلى «الإبراهيميّة» والتمهيد لها يجري بهدوء سامّ وتسريبات أقرب ما تكون إلى عمليّات غسل دماغ، من خلال مجسَّات هادئة تساهم في إدخال الفكرة إلى العقل الباطن للمواطنين العرب، وتنقلها من حالة الرفض الفوريّ المطلق إلى مرحلة الاعتياد على المصطلحات المرافقة لهذه الدعوة المشبوهة، ومن ثمّ إلى القبول بـ «الإبراهيميّة» كإطار جامع ذات أبعاد إيجابيّة، وهنا مكمن الخطر.

يسعى المخطّطون الاستراتيجيّون الإسرائيليّون إلى تكريس النهج الإبراهيميّ بتجلّياته المختلفة، بوصفه فلسفة المستقبل لمنطقة الشرق الأوسط عمومًا، والوطن العربيّ خصوصًا[1]‏. وهذا النهج يهدف إلى العودة بالمنطقة الشرق الأوسطيّة إلى التاريخ البعيد بحثًا عن عوامل جامعة لسكّان المنطقة كما كانت قبل آلاف السنين، والانطلاق منها إلى الوقت الحاضر في محاولة لإسقاط البسيط الّذي كان قائمًا في الماضي السحيق على المعقَّد القائم في الزمن الحاضر. الأمر ليس خياليًّا أو مستحيلًا بالصورة الّتي يبدو فيها، كونه في أصوله محاولة شيطانيّة لاستغلال النصوص الدينيّة والثغر التاريخيّة والأصول العرقيّة، في مسعى لربط مختلف أطراف معادلة العلاقة العربيّة - اليهوديّة معًا، كمدخل لإعادة بناء تلك العلاقة وتحويلها من علاقة صراع إلى إطار جامع للأطراف المعنيّة، وتحويلهم بالتالي إلى مجموعة إقليميّة واحدة بهدف الحفاظ على المكاسب الإسرائيليّة في فلسطين والوطن العربيّ.

ينطلق أساس هذا التفكير الصهيونيّ من الرغبة في خلق إطار ما من الشرعيّة، بهدف تحويل الوجود اليهوديّ الصهيونيّ في فلسطين إلى حقّ تاريخيّ لليهود تمهيدًا للسيطرة على المنطقة من النيل إلى الفرات، من دون الحاجة إلى خوض حروب واحتلال أراضٍ للوصول إلى ذلك الهدف؛ فالحروب تنطوي على مخاطر وتضحيات بالنسبة إلى الإسرائيليّين، كما أنّها تتطلّب القدرة، في حال وقوع الاحتلال، على ابتلاع وهضم المناطق المحتلّة كما فعل الإسرائيليّون في فلسطين، الأمر الّذي يفوق القدرة والطاقة البشريّة الإسرائيليّة. برز البديل في التفكير الاستراتيجيّ الإسرائيليّ الصهيونيّ من خلال طرح أفكار وفلسفات تؤدّي إلى تغيير التاريخ وابتلاع العقائد السياسيّة والروحيّة، واحتلال عقول البشر عوضًا من الاحتلال العسكريّ.

 

تطويع العرب روحيًّا

تسعى «إسرائيل» والصهيونيّة الآن إلى الخروج بمنظومة جديدة تعيد صوغ الكثير من المفاهيم الدينيّة لتلتقي مع المدرسة الّتي تدعو إلى التصرّف بوصف الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة عقائد «إبراهيميّة» تنبع من المصدر الإبراهيميّ نفسه، وبالتالي تحثّ أتباع الديانات الثلاث على التصرّف بوصفهم ينتمون إلى إطار دينيّ واحد وإلى مصدر روحانيّ واحد. الشقّ الروحيّ المتعلّق بتلك الدعوة المزعومة، والهادف إلى تطويع العرب المسلمين والمسيحيّين روحيًّا، وتحويلهم إلى أتباع للعقيدة الإبراهيميّة المقترحة هو أمر شديد الخطورة؛ كونه يتعرّض لصلب القناعات الروحيّة ويتصدّى لها، ويعمل على تطويعها خدمة للمصالح اليهوديّة الإسرائيليّة والسماح لها بالتغلغل في القناعات الروحيّة لسكّان المنطقة، وبالتالي تقاسم الأماكن المقدّسة كافّة الإسلاميّة والمسيحيّة مع اليهود.

الشقّ الروحيّ المتعلّق بتلك الدعوة المزعومة، والهادف إلى تطويع العرب المسلمين والمسيحيّين روحيًّا، وتحويلهم إلى أتباع للعقيدة الإبراهيميّة المقترحة...

المطروح لا يهدف إلى إلغاء الأديان القائمة الإسلاميّة والمسيحيّة، بل يهدف إلى خلق إطار روحيّ «إبراهيميّ» يجري بموجبه وضع الأديان السماويّة الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة ضمن إطار عامّ، واحد يكون أقرب إلى «الحلف الروحيّ» الّذي يفسح مجالًا لليهوديّة لاحتلال مكان مساوٍ لباقي الأديان بغضّ النظر عن التاريخ والواقع البشريّ الّذي يجعل من اليهود قطرة في البحر البشريّ للإسلام والمسيحيّة.

استنهاض المقاومة الروحيّة الإسلاميّة والمسيحيّة للهجمة الصهيونيّة اليهوديّة الجارية تحت شعار ’الإبراهيميّة‘ أمر جوهريّ وأساسيّ بعدما سقط الجدار العربيّ والعروبة كقيمة سياسيّة مقاوِمة للوجود وللاحتلال الإسرائيليَّين. إنّ استنهاض المقاومة الروحيّة يجب أن يكون بعيدًا من أيّ مسعى لفرض التعصّب الدينيّ، لأنّ نتائج مثل ذلك السلوك سوف تكون سلبيّة ومتناقضة مع مسعى مقاومة المخطّط اليهوديّ الصهيونيّ الداعي إلى «العقيدة الإبراهيميّة»، كون ذلك المخطّط اليهوديّ الصهيونيّ متعصّبًا وإقصائيًّا في صلبه، ودمويًّا وقمعيًّا في ممارساته، ولا يجوز مجاراته في أسلوبه التعصّبيّ الإقصائيّ، لأنّ من شأن ذلك إضفاء الشرعيّة على الأسلوب اليهوديّ الصهيونيّ الإقصائيّ والمتعصّب. هكذا، فإنّ إعادة تشكيل الفكر الدينيّ والعبث بالعقل العربيّ وقناعاته وهويّته، كانا دائمًا في ضمير المستتر لكلّ السياسات والإجراءات الّتي تبنّاها أعداء العرب في مختلف المجالات وبمختلف الوسائل انتهاءً بالدعوة إلى «الإبراهيميّة» بأبعادها المختلفة.

 

الإبراهيميّة حلًّا للصراع 

تترافق الدعوة الروحيّة الخياليّة الغيبيّة والمشبوهة تحت مسمّى «العقيدة الإبراهيميّة»، أو «الديانة الإبراهيميّة» مع دعوات أخرى مشابهة وسابقة لها تنتمي إلى الشقّ السياسيّ من معادلة الصراع مع ’إسرائيل‘ ،وتتمّثل بالدعوة إلى «شرق أوسط جديد» بحيث تصبح ’الهويّة الشرق الأوسطيّة‘ بديلًا من الهويّة العربيّة.

هنالك محاولات (...) للعودة إلى التركيز على الأصول العرقية السامِيَّة للعرب والعبرانيّين اليهود بوصفهم ‘أبناء عمّ’ من الأصول العرقيّة الساميّة (...) لتأكيد أولويّة هذه العلاقة على الهويّة العربيّة ورابطة العروبة...

إضافة إلى ذلك، هنالك محاولات أخرى واضحة للعودة إلى التركيز على الأصول العرقية السامِيَّة (Semitic Origin) للعرب والعبرانيّين اليهود بوصفهم ‘أبناء عمّ’ من الأصول العرقيّة الساميّة نفسها، وسيلة لتأكيد أولويّة هذه العلاقة على الهويّة العربيّة ورابطة العروبة، والاستعاضة عنها بهويّة، أو رابطة دينيّة، أو مذهبيّة، أو عرقيّة، أو جغرافيّة، لا تعني شيئًا مثل الهويّة الشرق الأوسطيّة، أو الأصول العرقيّة الساميّة، أو العقيدة الدينيّة الإبراهيميّة، لكنّها تسعى في جوهرها إلى قبول إسرائيل ودمجها في المنطقة وتهدف إلى تبرير وتكريس شرعيّة الوجود اليهوديّ الإسرائيليّ على أرض فلسطين، بل وحقّ اليهود التاريخيّ فيها.

 


إحالات

[1] هبة جمال الدين محمّد العزب، الدبلوماسيّة الروحيّة والمشترك الإبراهيميّ: المخطّط الاستعماريّ للقرن الجديد (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2021).

 


 

مركز دراسات الوحدة العربيّة 

 

 

 

مركز بحثيّ يهتمّ بالقضايا العربيّة ويعرض الحلول لها عبر عقد الندوات والمؤتمرات والدراسات الخاصّة المهتمّة بالقضايا العربيّة ومقرّه بيروت، لبنان.